مسرحية
"جنون" لمسرح الميدان
فرصة ذهبية منحت لصالح بكري ، فتلقفها وحلّق بها فأجاد وتألّق وحلّق في فضاء المسرح
خلال العرض المسرحي
بقلم : عفيف شليوط
كان العرض الافتتاحي لمهرجان "موسم الحصاد المسرحي" في شفاعمرو ، مسرحية "جنون"
لمسرح الميدان ، التي نجحت في خلق أجواء خاصة خلال هذا العرض المسرحي المتميز ،
الذي جمع ما بين الجنون في الابداع الاخراجي ، والجنون في الابداع الأدبي ، والجنون
في الابداع التمثيلي . فجمعت المسرحية بين كاتبة مجددة ومتجددة ، ألا وهي الكاتبة
التونسية جليلة بكار ، والتي قدمت لنا نصاً مسرحياً يتمتع بالشاعرية الدرامية
العالية ، والمخرج الفلسطيني حاصد الجوائز والمبدع الذي يفاجئنا دائماً ويدهشنا
دائماً سامح حجازي ، والممثل والذي أعتبره مفاجئة المسرحية الكبرى صالح بكري .
تدور أحداث المسرحية في أكثر من مكان وفي ذات المكان . لقد تعمد المخرج أن يخلط
الأوراق ، وأن يخلط الأزمنة والأماكن ، لعله يقربنا الى عالم الشخصية المركزية (نور
– التي أداها صالح بكري ) ، هذه الشخصية التي تعيش تخبطات وإنقسامات وصراعات داخلية
كفيلة بالقضاء على أقوى الشخصيات ، إلا أن نور في نهاية المسرحية ينتصر ويقرر أن
يعيش ، وذلك بفضل الدعم المعنوي والمتواصل والذي لم يتوقف طوال أحداث المسرحية ،
والذي لم يعرف اليأس ، من قبل طبيبة نفسية عنيدة كالصخر ومرهفة الحس الى حد الجنون
، والتي أدتها حنان حلو .
مسرحية تعالج رحلة علاجية لطبيبة نفسية مع أحد المرضى النفسيين ، والتي تصل الى حد
خرق الممرضة لنواميس المؤسسة الطبية ،وهروب الطبيبة مع المريض الى خارج المستشفى ،
لتنغمس بالتالي في حياته اليومية مع كل تعقيداتها ، مقتحمة محيطه العائلي
والاجتماعي البائس والتعيس . الطبيبة تتمرد في هذه المسرحية على الأساليب التقليدية
للمؤسسة في معالجة الانحراف النفسي ، معتمدة أسلوباً علاجياً مغايراً ، في محاولة
لفهم الأسباب ، والتقرب من مشاعر متلقي العلاج .
من الابداعات الاخراجية الملفتة للنظر في هذه المسرحية ، ذلك الخيط من الرمال
الساقطة من فضاء المسرح طوال العرض المسرحي ، والتي إستخدمت بشكل جميل ، وكانت في
صميم الحدث ، وكانت بمثابة الرابط القوي للأحداث . فهذه الرمال كانت تلك الساعة
الرملية المنذرة والمحذرة والضاغطة ، وكانت ذلك الحمام الذي طهر نور من كل شوائب
الماضي ، وكانت رمال شاطىء البحر التي أعادته الى ذكرياته وطفولته . هذا بالاضافة
الى جمالية ذلك الخيط الرملي الذي أدخل الجمهور في جو من الدفء والهدوء النفسي
اللذيذ المنعش ، وذلك الجو الشاعري الذي دعّم النص المسرحي الشعري أكثر فأكثر . زد
على ذلك الموسيقى التأثيرية التي رافقت أحداث المسرحية فأغنتها وعمقتها ولا أدري
لماذا لم يتم نشر إسم معد الموسيقى في منشورات المسرح حول هذه المسرحية .
أما المفاجأة الحقيقية للمسرحية هي الممثل صالح بكري ، فصالح في مسرحية "جنون" ،
قدم لنا شخصية مركّبة ، مليئة بالتناقضات والصراعات الداخلية والقهر ، شخصية كانت
مهددة بالإنفجار في كل لحظة ، ومعرّضة للخطر ، مطاردة من الداخل والخارج ، مطاردة
من ذاتها التي تحمل ذاتين في ذات واحدة ، ومطاردة من المجتمع والأهل . مطاردة من
الماضي _ الوالد ، ومطاردة من الحاضر _ الأخ . شخصية من هذا النوع مغرية جداً لممثل
يبحث عن الابداع والتألق . فرصة ذهبية منحت لصالح ، فتلقفها وحلّق بها فأجاد وتألق
وحلق في فضاء المسرح خلال العرض المسرحي . حديثه المتقطع ، تحولاته المستمرة من شخص
ضعيف مهزوم مقهور ، الى النقيض تماماً ، شخص شرس متعطش للقتل . حركاته ، ليونة جسمه
، توظيف نبرات صوته وتغييرها بإستمرار . كل هذه الألوان ساهمت في تقديم شخصية
متنوعة غنية ، نجحت في جذب الجمهور طوال هذا العرض المسرحي المثير .
كما قدمت لنا المسرحية ممثلة متألقة أخرى ألا وهي حنان حلو ، التي هي الأخرى عاشت
صراعات داخلية وتخبطات نفسية . فمن جهة لعبت دور الطبيبة النفسية التي تريد تقديم
العلاج النفسي لنور وإنقاذه من حالته النفسية المعقدة . ومن جهة أخرى شدّها الانسان
الذي في داخل المريض المعالج ، كانت في صراع بين نمطية القواعد والنظم ، وبين
المشاعر والفوضى التي ممكن أن تنظم الأمور . ونجحت حنان بتقديم هذه الألوان ، وأجمل
المشاهد عندما قدمت لنا صرختها الساخرة على مدير المستشفى الذي يمثل العقلية
التقليدية ، وغير المتفهمة لإحتياجات المرضى ومشاعرهم . إلا أنها في بعض الحالات
كانت تندفع بشكل مبالغ خاصة في حالات التوتر .
جواد عبد الغني قدم لنا شخصية الأخ بشكل مقبول . النص لم يمنحه فرصة التحليق ، فأدى
الشخصية كما يجب . أما عرين عابدي ، ورغم أن المخرج أناط بها شخصية تلائمها ، إلا
أنها كانت نمطية قاتلة . فتلك الأم ، ورغم برودة تعاملها ، إلا أنها تحمل غضباً ما
في داخلها ، تحمل صرخة ، ولكن لم نجد تلك الأمور لدى عرين ، وليسمح لي المخرج سامح
بأن أقول له ، ربما نقطة الضعف الوحيدة في المسرحية الاختيار غير الموفق لهذه
الممثلة ، فكان الأحرى بها أن تصرخ تتحرك تتألم بهمس ، لا أن تكون بهذه البرودة
القاتلة . كما أنها لم تكن مقنعة على الإطلاق ، وخاصة بأنها والدة نور ، رغم
المحاولات المخجلة بالماكياج والملابس .