لوركا فلسطينياً
|
|
محمود أبو الهيجاء
ما الذي يجعل "فيدريكو غرسيا لوركا" عالمياً إلى هذا الحد..!!
ما الذي يجعل نصه عابراً للأزمنة والأمكنة معاً فيكون منها ولها أينما حلّ ووقتما
حلّ...!! تشابه الهم الإنساني وتطلعاته الواحدة، قلق الوجود والمصير، الخوف من
الضغينة والرعب من العنف الذي يبدو قسرياً في لحظة كراهية طاغية..!!
صراع القيم والمفاهيم والعادات والتقاليد مع الرغبات والشهوات التي هي ذاتها تقريباً
في كل مكان من هذا الكوكب..!!
كل هذا صحيح إذا ما حملها النص على إبداعه الفني والجمالي وقدمها كحوار خلاق مع
الذات والموضوع وهو يطرح الأسئلة، أسئلة الوجود والمعرفة والتطلع، ويحرض عليها.
لكن ما يعصرن النص ويمنحه هوية المكان وروحه أينما حل هو الرؤيا الإبداعية والتفهم
الإنساني ليخلع عليه هويته الثقافية والاجتماعية والوطنية وحتى التاريخية وبالطبع
انسانيته التي تطغى في المحصلة على كل شيء فيه. وأظن هذا ما فعله "جورج ابراهيم" من
القصبة بمسرحية "عرس الدم" للوركا، بإعدادها إعداداً فلسطينياً حتى رأيت تلك القرى
النائمة في بلادنا وهي تئن من تلك الحكايات المرعبة التي لا يحكيها أحد..!!
ولعل البعض يرى أن "المعد" تصرّف كثيراً على حساب النص وروحه في تطاوله على لغة
الشعر فيه باعتماده اللهجة المحلية..!! لكن "جورج ابراهيم" المأخوذ بالمقاربة وهو
يرى المعضلة ذاتها تمشي بيننا، لم تكن خياراته كثيرة ومع ذلك فإنه جاء بالأغنية
والموسيقى ـ حبيب شحادة ـ ليعيد لنص لوركا روحه الشعرية وفاءً لهذه الروح واحتراماً
لها في الوقت الذي لم يبدل فيه تلك الأسماء وقدّم دعوات النبيذ على خشبة المسرح وفي
هذه مجازفة تحسب له وهو يحافظ على روح النص وأصله، لأن ثمة أصولية خارج الخشبة يمكن
لها في لحظة هوج تعبوية أن تلتهم النص والخشبة وما عليها سويةً..!!
لن أحاكم هذه المقاربة في اعداد جورج ابراهيم لعرس الدم على نحو نقدي اتحدث عن
مشاهدتي لمسرحية عرضها مسرح وسينماتيك القصبة في رام الله المطعونة في هذا السياق
بغياب النقد الانطباعي ما يصيب الكثير من الأعمال الإبداعية بالإهمال والنسيان..!!
وحتى الآن ولأن الشيء بالشيء يذكر، لا تبدو أعمال النقد على قلتها وارتباك مناهجها
غير أعمال ـ علاقات عامة ـ في أغلبها، إن لم أقل اعمال علاقات محورية وحتى من نوع "شيلني
وأشيلك"..!!
على أية حال، لهذه القضية حديث آخر يطول وأعود لعرس الدم التي أصابتني بالنشوة التي
يبعثها الإبداع عادة كلما كان بليغاً في لغته وحركته وحضوره، في "عرس الدم" بعد
الإعداد كان المخرج "نجيب غلال" يقرأ لوركا جيداً ويعرف مكان غصته العميقة وخوفه من
ذاكرة الموت وإرثه ورعبه من صراع القيم والعادات مع الشهوات الجامحة التي كانت تخبط
البراري بحوافر حصان "ليوناردو" وهو يطارد فيها، ليل نهار، رائحة الرغبة في علاقته
المحرّمة..!!
وذهب "غلال" أبعد قليلاً فأعطى الموت ـ خالد المصو ـ بياضاً ايقاعياً بجسد متماسك
لا يغيب كثيراً، وجاء بالقمر في جسد أنثى ـ دورين منير ـ زاحفاً على أرض الكروم
والبراري يحدد المكان ليهيئ عرس الدم ويشهد عليه فيما جعله رفيقاً للموت بتاج من
الأغصان اليابسة كأنها براكينه الخامدة لينتزع رومانسيته الزائفة فنراه برغم فداحة
حركاته الايمائية الحسية على حقيقته... صنواً للموت وهدأته التي تتفجر ينابيع من
الدم..!!
لم تكن الحركة على المسرح ثقيلة ولا بطيئة كانت هي ذاتها كيفما ينبغي أن تكون رشيقة
وطيّعة وبليغة ولم تذهب السينوغرافيا إلى فذلكة التقنيات التي تثرثر أحياناً دون
طائل، أما الموسيقى فكانت في مقامها، عالية تسيلُ نجوماً تروي وتتحدث..!!
بدورهم حمل الممثلون النص والإعداد والاخراج على أكتاف روحهم وحلقوا في فضاء الخشبة
كفراشات تدور حول اللهب..!!
أدركتُ الحزن ورأيتُ الضغينة والخوف ما ان راحت الأم ـ ريم تلحمي ـ تسأل ابنها
العريس المنتظر ـ اسماعيل الدباغ ـ الذي قال لي إنه مأخوذ بحب لم يختبره بعد،
وبشهوات كان القروي يربيها تحت الكروم، ثم شعرت بالقلق والرعب ما ان دخل ليوناردو "عماد
فراجين" خشبة المسرح، كانت عيناه تبرق كغريم وأنفاسه تتقطع كجريح فيما الزوجة ـ
منال فريد ـ تعرفُ خيبتها وتخبئها في صمت يتحشرج..!!
وظلت العروس ـ حنان حلو ـ تطل كخطيئة مقدسة حيناً وحيناً كبراءة مطلقة وهي تحمل إرث
أمها المجنون، فيما راحت تتكسرُ كأمواج بحر غاضب على صخرة التقاليد من جهة ورمل
الحب من جهة أخرى، لكنها امتثلت أخيراً لمشيئة الاعتراض والمناكفة..!! وكانت
الخادمة ـ فالنتينا أبو عقصة ـ الشاهدة الأمينة، والعارفة ببواطن الأمور، والأغطية
التي حاولت أن تستر الفضيحة قبل أن تندلع نيراناً في قلوب الجميع..!!
"عرس الدم" شكراً.. ولنفعل ذلك مجدداً.