زاهد عزت حرش *
الأحد 17/7/2005
لا يهم متى.. الا انه لمن يريد ان يعرف عن ذلك، فقد كتبت فيما مضى من على صفحات رفيقة العمر هذه.. "ان مسرح الميدان هو المسرح الوطني الفلسطيني في اسرئيل"!! وحين يقود دفة هذه السفينة في واقع مظلم.. قبطان تكدس في رئتيه عبق العبادة الوثنية لشيء اسمه "مسرح".. وحين تلتقي بفضل رؤيته، كلمة فلسطين ورؤيا فلسطين وجسد فلسطين وموسيقى فلسطين في عمل واحد.. تتجسد الرؤيا.. ويعلم حتى "الذين يزنون بالكلام"، ان مسرح الميدان هو مسرحنا الفلسطيني حقاً.
(لولا سواد بعضنا لكان البياض أصم .. ولولا بياض بعضنا لكان السواد
أعمى.. )
"جبران خليل جبران"
فضاء مسرحية "بياض العينين" مرصع بالبياض والسواد.. يفصل بين امتدادهما اللون
الرمادي.. ذاك الذي لعب دور العلاقة الفردوية ما بين الممثل والجمهور.. ودور مساحة
الصمت التي قال فيها مظفر النواب "لحظة الصمت ابلغ ان صدقت". في الخلف ما قبل
الخلفية، شكل الشق الملتوي خلفية ما قبل الظلام.. انتجت في تراقص الضوء على بياض
السواد وسواد البياض حالات متغيرة لديكور ثابت، واعطت في لعبة الضوء والجسد المتحرك
في فضائها، على ايقاع موسيقاها التصويرية المعبرة، حالة مسرحية هي الارقى والاصدق
والاجمل .. اتحدت كلها لتشكل في ادائها الرائع امثولة يمكنها ان توجز في عبارة
مساؤكم مسرح - صباحكم وطن
صديقي.. لم اقرأ نص مسرحية "الباص" انتاجك المسرحي الاول.. تلك التي
كتبت عنها بعد ان شاهدتها انها "رائعة الموسم المسرحي لهذا العام".. اما الآن مع "بياض
العينين" وجدتني ملزمًا بالتعامل مع الامر بما املك من ادوات.. واولها حبي لمسرح
الميدان الذي جمع بيننا في يوم من الايام.. فجئت اليه كطائر يعود بعد موسم الهجرة
متوغلاً في بساتين موطنه من جديد.. من هناك حملت النص المصور من "بياض العينين"
وعدت الى هجرتي مرة ثانية.
استأذنت آلامي ومتاعبي بعد ان جمعتها في حقيبة سوداء.. طالباً منها ان تتركني اغب
من كأسي التي سكبت فيها نص مسرحيتك.. علني استطيع ان انهل منها على مهل.. فمنذ زمن
لم اسفح دمي على احرف كونت في تواصلها حالة من الصدق تواجه بذاءة هذا الصمت القاتل!!
كلنا يعرف ما يجري خلف الابواب.. الا اننا نمتهن عبور الزمن في لعبة ممارسة الحياة
اليومية، من اجل التعايش.. من اجل ان نعيش.. من اجل غدٍ آخر.. وفي سياق ذلك يرتكب
زناة الارض بغاءهم وكل الموبقات دون وازع من احد.. فليس هناك من ضمير!!
جاء النص مركبا بحبكة مسرحية تشبه السرد الروائي.. فما امهلني ان ارتشفه على مهل..
قد طغى حتى اثملني نشوة، هي صحوة الموت امام حقيقة الحياة.. اخي، هل نملك حين نكون
على بعد اداة المكاشفة الصادقة لمواجهة واقع بذيء؟! دون حساب للواط الثقافة
المسترخين على ارصفة الطرقات في كل مكان من هذا الوطن؟؟ ربما!! وربما لست ادري!!
لكنني انبئك ان هذا النص يضعك امام مسؤولية تاريخية، هي انك الكاتب المسرحي
الفلسطيني الذي يستطيع ان يهدي لنا كتابة مسرحية متميزة، ابداعية، عبقرية خالصة
لوجه فلسطين.!! سيقول البعض عن هذه الكلمات انها صف كلام مبالغ فيه.. لا عليك!!
فانا اعرف انك تعمل الآن على نص مسرحي جديد، هو الثالث في سجل انتاجك الزمني..
وعليه، فاني اتحدى بك فيه كل النصوص المسرحية الفلسطينية منذ ان وجدت الى الآن!!
ايمن.. لم اتوجك انا .. انما نتاجك الابداعي، صدقك، ابحارك في ذواتنا التي طغى
عليها رياء عصي عن الكشف والمكاشفة.. لتأتي بنص مسرحي كنس غبار تكدس منذ زمن على
واجهة ايامنا.. وتراكم تحت شعار "خدمة الوطن!!" رياء هو في ذاته سكين ذبح هذا الوطن
من الوريد الى الوريد!! اتذكُر صرخة عصام (جواد عبد الغني) في آخر الكلمات حين قال:
"المحامي عصام يتقدم بالتماس الى محكمة العدل العليا ضد مصادرة اراضي ابو ديس"..
هكذا بكل هدوء!! لتسدل الستارة مخبئة خلفها كل بذاءة واقع هذا العهر الوطني الذي
يمارس كل يوم!! في سياق ذلك ينسى او يتناسى هذا الواقع المأجور، جرائم تنفذ فينا
بايدينا.. ويساهم في تقبل ما تفرزه الصهيونية في صيرورة ما ارتكبته وما ترتكبه من
جرائم، لتأتي بيسارٍ يغسل بماء وجوهنا يديه المخضبتين بدماء فلسطين!! طفح الكيل..
هذا هو ثمن ضياع المبادئ والاخلاقيات التي ميزت امتنا عن كل الامم.. وتاريخنا
وشعبنا عن شعوب الارض.. فالى متى ستستمر المهزلة؟!!
كنا التقينا على هامش العمل الجماهيري يوماً.. وفشلت التجربة!!
والتقينا امام اول عمل لك بعد عودتك لعالم خُلقت من اجله.. منذ سنوات، فايقنت بانك
تختزن الكثير مما لا يعرف به احد!! يا صاحب العمل الممتد جرأة ثلاثية الابعاد في "احلام
شقية" .. ورطتني في التعرف على سعد الله ونوس!! فما بالك اليوم تدفعني للتورط معك
ومع الآخرين من حولك.. وانت تعلم اني آت اليك بقلب كزجاجة خمر معتقة، لا اسكبها الا
على موائد الثوار.. او انبياء جاؤوا لمن هم امثالي من فقراء الناس..!!
دعك من هذا.. وقل لي، من اين خلقت هذه المشهدية الثنائية لمسرحية واحدة؟؟
صحيح ان الكاتب صقل رؤيته في حوارية سينمائية من المشهد الاول وحتى السابع!! الا
انه كان من الممكن ان نلتقي بها في صيغة مشهدية مسرحية عادية.. فهذه الحوارية
المتداخلية لمشاهد منفصلة في تكوينها، جاءت لتقول اننا امام تجربة خلق جديدة!! يضيق
بي الكلام هنا واحس برغبة في البكاء والضحك معاً.. ها نحن ورغم كل شيء نجترح معجزات
جديدة.. والمتربصون بنا ليست السلطة ولا الاعداء.. انما من ابناء شعبنا، وها هم
يحتلون مقاعد امامية ليصاب المشهد بشيء من التوتر!! او تدري انهم جاؤوا ليحملوا خبر
الفشل عن عمل لم يشاهدوه بعد.. لانهم كما قالت احلام مستغانمي "يكفيك نجاح واحد كي
تخلق لنفسك عشرات من الاعداء"!! فما بالك وانت بهدوئك البحري قد زرعت بستانا من
زنابق النجاح!!
ان وتيرة هذا العمل وايقاعه الدافق كانه الحياة .. لم يترك متسعا للنظر لشيء آخر..
قد بدأ كبدء الريح العاصفة، ليحمل معه كارئة الحقيقة الدامغة لواقع بذيء.. ان نحن
انتبهنا له وصددنا ابواب بيوتنا بعزيمة وصبر سيكون لنا غد آخر.. وان نحن تركناه
سيهددنا بمصير لا نعرف بعده او مداه!! نعم انا اعلم ان المسرح ليس ثورة.. لكنه اداة
تحريض تحمل في ثناياها الكثير من ادوات الثورة والتغيير.. وها هي اماسي ميدان
المسرح تزودنا بها.
" انا حبيتك عشان هاي المبادئ"!! كم من صبايانا احببن ووضعن اعمارهن
وزهرة شبابهن من اجل مبادئ باعها الاخرون من اجل اشياء اخرى؟!! انا من موقعي البعيد
عن خشبة المسرح ارقب شموخك الابي.. هزني صراخك واعاد ابوتي الى طفولتها، لاضع كف
يديّ مداسا لابنتيّ.. لاني اخاف هذا البكاء!! لو تعلمين كم كنت سعيداً بوحدتي في
آخر موقع من صالة الجمهور.. لان بكائي الصامت ربما كان سيثير سخرية الآخرين!! الا
انني اعترف به الآن امام الجميع.. ليس من اجلهم!! انما هو اعتراف من اجلك انت. فهذا
الجسد الذي لم يفرح بما يريد من اثواب، يحمل في الصدر قلباً من ياسمين ماء ورد.
ذكرني مرورك في الفضاء الممتد ما بين خشبة المسرح وموقعي البعيد.. بمقطع من مسرحية
"روميو وجوليت" لشكسبير حين قال: " تكلمي تكلمي أيها الملاك الرائع الوضاء، فأنت
تسطعين وسط الليل في السماء كمرسل مجنح يطوف فوق الأرض يبهر العيون وهو يمتطي متن
الهواء أو أنه على السحائب الوئيدة يمر ناشراً شراعه في لجة الفضاء." ظلي على ما
انت عليه من شموخ.. فالمسرح يحتاج لقامات تهتز لها الارض!!
كنا التقينا في عمل يحمل بعضا من بصمات تعود لاصابع انتجت هذا العمل..
ودورك هناك فيه شيء من دورك هنا.. ورغم هذا وذاك فقد ادهشتني!! اراك حقيقياً هنا
كما انت حقيقي!! تعددت شخصيات ادائك المنفرد على المساحة الرمادية الفاصلة، لتعطي
صيغة لما هو انت!!
في المسرح كما في الحياة.. اما ان تكون صادقاً واما لا!! ربما هناك اجزاء من
الحقيقة لاجزاء من مشاهد مسرحية اخرى، كما يحاول البعض على مسرح الحياة!! الا ان
هذا الكيف الدافق من العطاء المشبع بقناعة فيك، هي نبع من الحب، لطريق اخترته انت
بأصغريك، قلبك ولسانك!! ويأتي في خضم هذا العمل الايقاعي الزاخر بالحركة والضوء
والموسيقى، كسيل من عطاء عظيم هو نتاج حب عظيم "سيفهم الصخر ان لم يفهم البشر".
في اعتقادي انه مجازفة صعبة ان يختار الانسان مهنة التمثيل – الفن – في حين كان
يستطيع ان يختار مهنة المحاماة.. ففي الاخيرة الف وسيلة لطمس الحقيقة!! بيد ان في
الاولى كل طمس للحقيقة هو مواجهة جدلية ما بين الذات والآخر.. وربما مصير من الفشل!!
فانت يا اياد لم تقبل بالخيار السهل لانك فنان حقاً.
تتسع دائرة الضوء كلما اقتربت من بؤبؤ العين.. حتى يغشى على الناظر
شعاع ليس له حدود!! نحاول ان نتذكر كيف غشت ابصارنا لحظة وميض.. لكنها لا تعود!!
اتتذكرين ما قلته لك حين التقينا بعد انتهاء العرض.. "بتجنني"!! وها انا اعلنها هنا
عن رصد وسابق اصرار " بتجنني".. وكما قلت لك ايضاً.. احتفظي بالبراءة وعفوية العطاء
الآتية من خلال انصهار الذات في الاداء!! فحين يفقد الابداع برأته وعفويته يتحول
الى مهنة ككل المهن، ويصبح في عداد الفنون التطبيقية.. وربما يموت!!
انت يا آمال في بداية الطريق.. من عمل مضى وهذا العمل اراك ترسخين خطواتك بثبات
ونجاح عظيم!! اخاف ان انحاز اليك فيما اقوله اليوم.. الا انني اتذكر قولا لجبران
خليل جبران هو "ان ما اقوله اليوم بلسان واحدة.. سيردده الغد بالسنة عديدة" وما
عليك الا ان تكوني انت كما انت!! فما يزال هناك الكثير من الحقيقة فيكِ.
* جواد عبد الغني – ممثل
" ثبت خطاك .. على الثرى
وبعضاً انحني!!
كيما تمر العاصفة
ثبت خطاك ..
ودع سيول الجرف تعبر باضطراب
وانت كالاشجار تضرب جذعك في الارض..
فهي الوحيدة عارفة"
من محاولة شعرية كتبتها تحت عنوان "جدارنا الاخير"
ما وجدت اصدق منها لاعبر لك عن مدى احترامي لادائك يا جواد.. نعم ان ما كتبه ايمن
اغباريه هو رسالة كشفت كل اوراق اللعبة في واقعنا.. الا ان صوتك جاء يحمل هذه
الرسالة لينقلها المسرح الى الناس!! "ثبت خطاك" لاني ارى ان الغد لكم "يا اهل
المسرح" ولمسرح الميدان.. انتم جنوده دافعوا عنه كي يدافع بدوره عنكم.!
كاللوحة البيضاء "ان الذي يجرؤ ان يقف امامك عليه ان يكون إلها او ان
يغير مهنته".. تدافعت هذه الكلمات من الذاكرة لمقولة هي بالاصل "ان الذي يقف امام
لوحة بيضاء للخلق، عليه ان يكون إلها او عليه ان يغير مهنته – احلام مستغانمي" !!
هي متاهة للبحث عن كلمات تتوافق وتلك الصور المشهدية المتراكمة في الذاكرة.. الا
انني لم انس الزخم الباحث عن فوهة ليخرج كطلقة البندقية.. للجرأة حد كحد السيف حين
تكون صادقة حد المواجهة!! اوتعلمين اننا لم نجرؤ ان نحس ان ما نشاهده ما هو الا عمل
فني بحت؟؟!! كيف هذا.. والمشهد امامنا لبشر من دم ولحم ومشاعر!! هذا لانك انت..
ولانك انت هكذا ما خبأت لك من الكلمات شيئاً سوى "الزنبقة السوداء"1
اسمعي.. اود ان اهمس لك ببعض الكلمات على مرأى من الجميع.. في دورك الذاتي على
المساحة الفاصلة باللون الرمادي لم تكوني انت!! لا بأس يظل في قلب الفنان الصادق
ولقائه بالناس رهبة لا تزول.. وعليها ان لا تزول!! هناك ممن جلسوا في الصف الامامي
صنعوا ذلك كي ينالوا منك؟؟ ارجو الا تعطيهم هذه الفرصة مرة ثانية.
* الى كل الآخرين
"كل على قدر الزيت فيه يضاء"2 وكلكم اضاء مشهدية هذا العمل المسرحي الرائع..
الا ان هذه الكتابة استنزفت كل قواي، وعلى الرغم من كل شيء!! فالموسيقى التصويرية
التي وضع نثرياتها كارم مطر، اعادت اليّ تلك الاماسي التي اعتدت فيها سماع موسيقى
خالصة لوجه الحب.. بيتهوفن وباخ وتشيخوفسكي !! اضرمت يا كارم موسيقاك في اللحظات
الاخيرة نار الثورة فيّ، وتركتني امام واقعنا المرير فاغر الحواس، لكنني متيقظ
الضمير!! فغداً نبدأ المسير الى الجلجلة.
يوري كابيشتسر، نجدية ابراهيم، موشيك يوسيبوف، نزار خمرة عادل داوود ورياض
مصاروة.. شكراً لكم جميعاً.. وتيقنوا ان مسرح الميدان بما له وما عليه هو لاهل
المسرح.. فانتم وكل المسرحتين من ابناء هذه الارض.. ارضنا، انتم اهل المسرح! وهو
لكم ان كنتم انتم له.. والحق الحق اقول لكم ، علمني مسرح الميدان كيف يكون "مساؤنا
مسرح وصباحنا وطن".