بعد غياب طويل للنصوص المسرحية المحلية، يطل علينا نص "بياض العينين" المسرحي
للشاعر والكاتب ايمن اغباريه"، يطل ليفجأنا وليقول لنا: نحن هنا نملك جميع
الادوات، ولكننا نحتاج الى وقت فيه تتبلور تجربتنا وتنضج اعمالنا. من هنا اذا
اردنا الحديث عن "بياض العينين" كعمل مسرحي شاهدناه على خشبة مسرح "الميدان"
مؤخرا، علينا التمييز بين الكتابة للمسرح، بين نص الكاتب وامومته له وبين الكتابة
الثانية له، اعني الكتابة المسرحية، التي تفتح النص وتخترقه لتقول هي الاخرى
مقولتها فوق او مع مقولة الكاتب. ومن هنا ثانيا، علينا قبل ان نبدي ملاحظاتنا
وانطباعاتنا عن العمل المسرحي ان نتوقف عن النص وذلك لسببين: الاول، كي نؤكد على
اننا نملك مبدعين للمسرح، والثاني كي نجلو مكنون هذا النص لنرى الى اعماقه
وخفاياه، كي يتسنى لنا فيما بعد ان نرى ما قدمته الكتابة المسرحية الاخراجية من
اضافات فنية عليه.
* أ- النص المسرحي: ان نص مسرحية "بياض العينين" نص يمتح من واقعنا، يصدمنا
ويعرّي زمننا الكالح، ويكشف عن امور كثيرة مسكوت عنها في مجتمعنا. وهنا في رأيي
تكمن اهميته. هو نص يصفعنا بقسوة كي نصحو من سباتنا او من غفلتنا لنواجه الواقع
المر بكل ملابساته وعهره ونفاقه.
هو نص يرصد فيه كاتبه حياة عائلتين عربية فلسطينية ويهودية تعيشان في مدينة "حيفا"
متجاورتين. وخلال الاحداث يتغور النص حياة العائلتين وعالميهما/ المؤتلف والمختلف/
وما يحدث على صعيد الآنيّ اليوميّ، الى حين تأتي اللحظة الضاغطة المأزومة التي
تفتقّ النص وتفتحه على مصاريعه. هذه اللحظة تتفجر من جراء حادث طرق راح ضحيته طفل
فلسطيني. حادث الطرق هذا يكون فاتحة لامور كثيرة مسكوت عنها، او كدنا ننساها
ونتعايش معها، ولكنها في الحقيقة هي امور رغم الغبار المتراكم عليها تقلقنا
وتزعزع سكينتنا المفتعلة وترج اعمدة عيشنا المشترك المقنع، فهي موجودة في لاوعينا
من الصعب ان تظل خافية. حيث كلما وقع امر معين نراها تطفو على السطح من جديد
وتضعنا امام كومة من المساءلات المحرجة الحارقة، التي تستمد شرعيتها من الماضي،
ذاك الماضي الكابوس الملفوف بغلالة صفيقة والذي يعتقد بعضنا انه صار في طيّ
الكتمان/ النسيان، واذا به يختبئ في الجوّاني ليهزنا كلما دغدغته كلمة او واقعة.
والمساءلة الاساس التي يطرحها النص ويخوض فيها معريا مكنونها وابعادها وتشظياتها
هي: هل الماضي انتهى، ام انه ما زال قائما؟ وهل تجاهلنا له يكفي، ام انه لا يزال
يربض في دواخلنا يتحرك ويتلوى ويلوب كلما سنحت له فرصة في حاضرنا؟ هل صيغة العيش
المشترك هي صيغة مبنية علىاساس متين، ام انها صيغة هشة تنهار امام الهزات، كالذي
حصل في "بياض العينين"؟ ثم هل ما وصلنا اليه اليوم من انسجة حياتية مجتمعية امور
مظهرية ام اصيلة؟ هل نحن صادقون في تعاملنا مع الغير، ومع انفسنا، ام ان الامر
مقنع يخفي زيفا ووصولية وانانية شخصية؟ هل المعايير التي نستخدمها في حكمنا على
الامور وعلى انفسنا وعلى الآخر، معايير صادقة ام مزدوجة ومزيفة؟ اين نحن؟ وما
موقفنا من اليسار اليهودي الاسرائيلي الذي بدّل موقفه وموقعه – من مستعرب قاتل
الى حمامة – كما في النص.
هل سننسى مواقفه السابقة ونهلل لتحوله، ام ان ماضيه الملطخ سيظل عائقا؟ ثم ماذا
مع الفلسطيني – شقنا الآخر -؟ هل نغيبه لصالح العيش المشترك ولصالحنا الاناني؟ ام
ان تغييبه وهوالحاصل – سيظل سوطا يجلدنا كلما اعترت مسيرة حاضرنا هزّة؟ هل
انشغالنا بقضية الآخر وبالعيش المشترك مبرر لنسيان القضية الاساس – فلسطين؟
وفلسطين في النص مرموز اليها بالطفل وبوالده.
اسئلة كثيرة حارقة يطرحها نص "بياض العينين" موحيا اليها حينا ومجاهرا بها احايين.
والمتلقي يلاحق كل هذا الكم من الآني الذي يقلق واقعه الاجتماعي/ السياسي/
الثقافي، وهو مشدود ومشدوه امام ما يجري، لان ما يجري مستمد من تفاصيل حياتنا.
وتظل الاسئلة تلوب حتى ينزف النص مأزومه من خلال امرأتين وفتاة. فالنساء في النص
يشكلن الضمير الحي، ونزف المأزوم يأتي بعد حادث السيارة. فالاصطدام بالطفل
الفلسطيني ينكأ الجرح ويفتحه، جرح الماضي، فيتصادم الماضيان ماضي "أيال" وماضي "عصام"،
ولكن هذا الصدام يقود الى مصالحة، لان التستر على ما كان والسكوت عنه يصب في صالح
الاثنين. فتكون الصرخة: صرخة "كيرن" وصرخة "منى" في نهاية المسرحية فاضحة ولكنها
صرخة مقموعة سلفا وذلك لان الظروف غير مؤاتية بعد، ويقفل النص هنا مع تلميح الى
استمرار "أيال" و "عصام" في جمعيتيهما. وللجمعيات في النص حصة كبيرة، فهي تشير
الى استغلال الجرح. فالكثير من الطرفين – الاسرائيلي والعربي -، استغلا الجرح
الفلسطيني واقاما جمعيات / دكاكين من خلالها راحا يجنيان الاموال الطائلة
ويتستران بها على حاضريهما. فالجرح الفلسطيني عندهما صار سلعة مربحة، لذلك كثرت
المتاجرة به. ومن هنا فان تغييب الفلسطيني يكون لصالحهما. من هنا يكون اتحادهما
رغم التقاطع والتعارض. وتكون اطروحة النص في النهاية: لا يمكن للماضي ان ينتسى
طالما ان الفلسطيني مغيب، لان غيابه سيظل ناقوسا يهدّد بانفجار الماضي وانهيار
المصلحة المشتركة. فاذا نحن فعلا اردنا العيش المشترك السليم المعافى ونسيان
الماضي، علينا بداية الاتفاق على الشيء الغائب او المغيب، لانه لا سلام ولا
مساواة ولا عيش مشترك دون ذلك.
هذه هي رسالة النص:
ومما تقدم يتبين كم هو غني نص "بياض العينين". والسؤال الذي يرتفع: كيف استطاع
المخرج "منير بكري" تجسيد كل ما ذكر مسرحيا وما الاضافة التي قدمها؟ لان مسرحة
النص كتابة ثانية له فيها تأويل ورؤية خاصة بالمخرج مسرحة النص تعني انفتاحه
للتغيير والتبديل والتعميق ليبرز المخرج بعد ذلك مقولته ورؤيته. فهل نجح "بكري"
في ذلك؟
* ب- الاخراج:
لقد عرفنا المخرج "منير بكري" من خلال اعمال مسرحية سابقة "كرقصتي مع ابي" و "بيت
السيدة"، و "رجال في الشمس" وغيرها وفي جميع ما قدمه كنا نراه يحقق النجاح تلو
النجاح، ويقدم رؤية مسرحية جديدة ويتألق. وهنا ايضا كما في السابق يضيف "بكري"
الى ملفه الاخراجي رصيدا ونقلة نوعية متميزة، مؤكدا على ما كنا قد قلناه اكثر من
مرة: "النص الجيد يستلزم اخراجا جيدا ومتميزا".
في "بياض العينين" يستمزج "بكري" عددا من التقنيات والاساليب المسرحية بفنية
راقية لتصب جميعها بالتالي في رؤية خاصة به، مستغلا فضاء المسرح وخشبته
وسينوغرافيته بكل غناها بذكاء ولافتة للنظر. فهو يوظف اكثر من مؤثر حيوي ضوئي
وصوتي وديكوري ليقنعنا بان لعبته المسرحية صادقة وواقعية. وكذلك يوظف المونولوج
الكاشف لاعماق الشخصية ومكنونها، ويزاوج من خلال المونولوجات بين الصراعات
الداخلية لكل شخصية على حدة مع الصراع الكبير الخارجي. فلكل شخصية صراعها السياسي
/ الاجتماعي، ولكنها جميعا تلتقي مع الصراع الخارجي: صراع الماضيين والحاضر
المشترك، دون الوقوع في براثن السنتمنتالية الرخيصة الزاعقة المباشرة، بل يوحي
الى الصراعات ايحاء ويلامسها بخفة، تاركا للمتلقي/ المشاهد حرية التفكير وتفتيق
المشهد وتحليله وتعميقه والسير وراءه. كما انه ينجح في ابعاد الرتابة عن المتلقي
حين يتطرق الى صراع العائلتين بحيث يقسم فضاء المسرح الى مشهدين متباعدين
ومتلاحمين وفي آن معا، وهي تقنية استطاع "بكري" من خلالها اضفاء العمق على المشهد
والارتفاع به الى مصافّ الفنية الراقية منتشلا اياه من الرتابة ومراهنا بذلك على
جمهوره، وقد لاقت هذه التقنية الكثير من النجاح.
هذا بالاضافة الى تعميق دور "منى" وجعلها متمردة على واقعها، والمراهنة على
المرأة عن طريق جعلها العنصر الثائر لا الساكن. فالمرأة عنده هي ضمير المجتمع
الحي التي لا تقبل ان تعيش كما كانت في الماضي منكسة الرأس، مغمضة العينين،
مسلوبة الحقوق، غافلة او متغافلة عما يجري.
يضاف الى ذلك القفلة/ الخرجة الرائعة المتميزة في نهاية المسرحية التي شكلت لسعة
عقرب وكانت بمثابة الـ "Poenta " الخارقة التي فتحت العمل في النهاية على التأمل
من جديد، أعني محادثة "عصام" الهاتفية مع "ابو ديس" باسم الجمعية التي يرأسها
وكأن شيئا لم يحصل. هذه الجملة المحمّلة بالكثير من الترميز تختصر حاضرنا الآسن
المهترئ وتختزله وتلح على ما ذكرناه سابقا من قضية الجمعيات/ الدكاكين والتجار
الذين يمتصون لحاء القضية ويعيشون على جرحها النازف.
* ج- ألأراء:
هذا الغنى الفني: النصي والمسرحي، من الطبيعي ان يتطلب جهدا في الاداء والتجسيد
على خشبة المسرح، ومن هنا يأتي دور الممثلين وتنهض المساءلة المشروعة: كيف استطاع
طاقم الممثلين القيام بكل هذا العبء المعنوي الفني؟
"جواد عبد الغني" قام بدوره بشكل صادق ومقنع، خاصة مواجهته مع منى ومع اخته.
فالمواجهة شكلت له محكا حقيقيا على صعيد طاقته التمثيلية لانها خلعت عنه القناع.
فرأيناه يقدم اقصى ما عنده من طاقة حركية وصوتية وتعبيرية، "جواد" في دوره ذي
التناقض بين حقيقة وزيف يتقن اللعبة فيتبدل بين لين وقسوة، بين هدوء وثورة، خاصة
في مواجهته "لأيال".
"إياد شيتي": صادق الاداء، مقنع، واثق من نفسه. وقد بدت لنا هذه الامور مجتمعة من
خلال المونولوج الذي قدّمه حيث رأيناه يتقلب بين ضميره وحقيقته وزيفه في حركات
وجهه وجسده وتلوين صوته.
"نسرين فاعور": كعادتها لبت الدور وبيّنت لنا معرفتها باصول اللعبة الايهامية،
أدت دورها بصدق وبأمانة جاهدة في ايصال مقولة المسرحية للمتلقي، وذلك من خلال
معظم المشاهد وبشكل خاص من خلال مونولوجها. وقد ظهرت لنا امرأة ناضجة مثقفة،
صادقة، واعية لا تسكت على ضيم، شجاعة فهي نقيض زوجها. استطاعت ان تقنعنا بحركاتها
وادائها بالتحول الذي طرأ على علاقتها بزوجها.
"حنان حلو" برعت في مونولوجها الذي أدته بثقة وباتقان وفنية، وقد استطاعت
بطاقاتها التمثيلية ان تقنعنا بحضورها وبأنها طاقة واعدة.
"آمال قيس": تألقت، وذلك من خلال صدقها الادائي وعفويته، حيث رأيناها تتحرك بحرية
في فضاء المسرح وحركتها عكست لنا انطلاق الشباب ومفاهيمهم المغايرة. كذلك قامت
بتقديم مونولوج رائع فيه دفق وبوح عبرت عنهما بحركات الجسد والصوت.
* د- السينوغرافيا:
كل ما تقدم ما كان له ان ينجح لولا معرفة استغلال "سينوغرافيا" المسرح، وذلك من
حيث الديكور البسيط المعبر والملابس الملائمة للزمكانية ولنفوس الشخصيات من تصميم
"يوري كابيشستر". وكذلك استغلال الاضاءة التي لاءمت تلون الاحداث والانفعالات
وزمكانية العمل من تصميم" موشيك يوسيبوف"، وايضا الموسيقى الموحية المعبرة عن
خفايا النفس ومكنونها، والصارخة في وجوهنا، الموحية بالخطر الداهم وبالازمة
الآيلة للتفجر، من تصميم "كارم مطر".
ثم لا بد من الاشارة الى ما في النص من صياغة وتعميق واضافات، خاصة تعميق دور "منى"
والقفلة، اجراها المخرج المسرحي "رياض مصاروة".
* هـ - "ولكن":
مع كل ما قلناه عن مضمون النص ومبناه الدرامي المحكم الا اننا نتحفظ من شيء واحد
فيه وهو تغليب صحوة "كيرن" اليهودية على "منى" العربية، فقد بدا لنا وكأن "كيرن"
وزوجها "أيال" وخاصة "كيرن" الاكثر وعيا والاكثر سعيا الى الحقيقة رغم تعارض
الحقيقة مع مصالح شعبها. كان من الاجدر في رأيي اقامة توازن بين "كيرن" و "منى"
فأزمة "منى" كعربية اكثر حدة وابعد عمقا. حيث ان قضيتها مثلثة الابعاد فيها البعد
النسوي الاجتماعي (قتل الاخت وقمع حبها) والبعد السياسي (الطفل الفلسطيني)،
والبعد الفلسطيني الاسرائيلي (قناع زوجها المحامي وجمعيته، والعيش المشترك). ومع
ان الكتابة المسرحية حاولت تعميق دور "منى"، لكن ظلت الفجوة قائمة بينها وبين "كيرن"
التي كانت صادقة في موقفها لم تتنازل عنه.
ومع النقلة النوعية التي شاهدنا في الاخراج الا ان امورا معينة بدت ناتئة بحاجة
الى اعادة النظر فيها، منها" ارتخاء المفاصل، فالانتقال من مشهد الى آخر كان
بطيئا مما اعاق انسياب الاحداث وعفويتها وأضر بايقاعها، وادى بالتالي الى ارتخاء
المشاهد/ المتلقي، بدلا من شد انتباهه ومنها ايضا مط بعض المونولوجات، الامر الذي
افقدها حيويتها وازاحها عن هدفها الاساس. فالمونولوج من طبيعته التكثيف والايحاء
وسرعة الايقاع. هذا عدا خروج بعض المونولوجات عن السياق الحدثي كمونولوج الفتاة.
والامر الاخير هو المرور بسرعة على قضية الصراع بين "منى" وزوجها حيث هنا كان من
المفروض ان تتعمق القضية اكثر لا ان تمر هكذا بسرعة يفقد المتلقي معها لحظة
الانقلاب فالتعرف .. فلولا قفلة المسرحية لكنا اضعنا هذه اللحظة وخرجنا دون
استبطان عمق الصراع وابعاده.
اما عن الاداء فقد كان جيدا بشكل عام سوى بعض الانفعالية التي بدت على "نسرين" في
المشاهد الاولى والتي لا نعرف لها مبررا خاصة وان "نسرين" ممثلة قديرة ومجربة.
وكذلك فتور بعض المشاهد في اداء "حنان حلو".
* و- ورغم ذلك: رغم ما ذكرناه من ثغرات اخترقت النص والاخراج والاداء، الا ان
المسرحية كانت متميزة، اثبتت اننا نملك طاقات فنية محلية كبيرة سواء كان ذلك على
صعيد الكتابة للمسرح او الكتابة المسرحية او الاخراج والتقنيات اوالاداء وكذلك
برهنت على اننا اذا اردنا نستطيع، وخاصة في مجال الكتابة للمسرح.
شكرا للقائمين على هذا العمل الفني الراقي لانهم اخرجونا من رتابة الحياة لساعة
زمنية واجهنا فيها انفسنا لنتطهر ارسطوطاليا، كي نستأنف المسيرة من جديد بخطى
واثقة ثابتة.
مسرح الميدان الى امام.