مسرحية اشباح على مسرح القصبة

حين يصبح لون الخطيئة بنفسجيا

زياد خداش
رام الله


كان بودي ان ارى ملامح وجه فني الصوت ريمون حداد وهو يتفاجأ بانفجارات مطرية نبيلة ومحبة على سقف مسرح القصبة ليلة عرض مسرحية اشباح الخميس الفائت وبالمناسبة ، انا لا ادري حتى اللحظة : هل كانت دفقات المطر واندفاعاتها الغريبة من ضمن موسيقى المسرحية ام كانت مطرا حقيقيا هب على جدران المسرح وسقفه انفعالا لحديث زوجة البيك عن بهجة الحياة ؟؟ كانت عبارة بهجة الحياة تنطق < بضم التاء> وكان المطر يهجم بحنانه ويأسه الرائع واصراره المعذب على فضاء المسرحية ، فيزيد المتفرجين ارباكا جميلا وراء ارباك و انفعالا غامضا وراء انفعال ، ان مجرد صعود درجات القاعة يسبب لي حساسية غريبة في دمي ، فالمسرح لا يعني لي فقط التفرج على النفس ، انه ايضا التفرج على المستقبل ، انه الوقوف امام نافذة جديدة بلا ستائر مفتوحة على البهجة التي فينا او الهمجية او الجنون او السلام او الحقد او البطولة او اليأس وكافة مشاعرنا و مواقفنا الباطنية
انا لا اتحدث عن الدور التربوي او التنويري للمسرح في حياتنا ، ابدا ، انا احاول ان اقول : ان المسرح هو سيد من يقودنا بسحرية عجيبة نحو ادراك بعد اخر للحياة ، نحو تفسير ممتع وطري للعالم ، انه يشبه اليد الرائعة التي تمسح الغبار عن وجه مرايانا التي رميناها في قاع ذاكرتنا في صخب انشغالنا بترهات الحياة وشكلياتها ووزخرفها ، فضلا عن انه ايضا برهان على مدنيتا وحضارتنا ، ان الحالة التي اشعر فيها بالمسؤولية الكبيرة تجاهي و تجاه العالم والناس والاشياء ، تتجسد فقط في مشهدين : وقوفي امام طلابي في المدرسة ، وجلوسي امام عرض مسرحي ، يا للغرابة ! فانا انسان لا احب ان اتحمل مسؤولية شيء ، انفر من المهمات وامقت الواجبات واحتقر الالتزامات ، الا امام الطلاب وامام المسرح فهناك اتحول الى راهب او مقاتل ، في القاعة تحديدا في مقعدي الهامشي المنزوي المعتاد الذي يهرب منه الكل بحثا عن المركز، جلست ممارسا سكر التلقي ورعشات الاستجابة لغزوة الفن المسرحي الذي لا يهز جمالي الداخلي ويعيث بتحولاتي نورا سواه ، في داخلي يتعايش الان راهب ومقاتل ، راهب في معبد يتماهى مع الطبيعي والبكر والنقي والحقيقي والازرق ، او مقاتل في معركة صغيرة ولذيذة ، معركة انهزم فيها دائما شر هزيمة امام طغيان اليد الرائعة التي تسحبني بحنان قاس ولا يقاوم من ياقة عرقي وتوتري نحو اجمل هزائمي واحلى عريي ،
المسرحية اسمها اشباح ، وهي لمؤلف مسرحي نرويجي معروف : هنريك ابسن ، الممثلون فلسطينيون عرب ، هنا يأتي دور الغصة الدائمة ، ساسمح لها بالمرور قليلا ، فلها حق الاقامة فينا لوقت قصير ، وهي دائما على شكل سؤال بلا جواب : اين الكتابات المسرحية التي يكتبها فلسطينيون ؟؟ لن اسمع سوى همهمات ، لكني ساتجاوزها كالعادة ولن اسمح لها بان تعيق تفاعلي مع المسرحية بعذر واحد فقط هو ان هنريك ابسن كاتب عالمي انساني يكتب عني وعنكم وعن كل الناس ، فخطايا الاباء العرب هي نفسها خطايا الاباء النرويجيين ، ففي كل مكان يعتدي بعض الاغنياء على الخادمات ويحبلن منهم ، في كل زمان تهرب النساء من ازواجهن ويقمن بخيانتهم ، الاثام هي
الاثام والجنون هو هو في كل مكان ، العشاق يتناسلون من بعضعهم البعض حكايا وعذابات ومخاوف وحب كثيررر وموت ايضا ،
روميو هو قيس وليلى هي جولييت ، نيرون هو صدام حسين وجيفارا هو سبارتاكوس ، انهم جميعا مجرد مشاعر وحالات وقصص ، تبتكرها المخيلة البشرية الضائعة في مهب الغموض والفناء ، ومحدودية الخيارات .
هزتني القماشات البنفسجية التي كانت تؤدي دور حيطان ، هل كانت بنفسجية حقا ؟؟ ام ان لون الخطيئة في عيني بنفسجي ، هل بدأت اهذي ؟، مهلا يا زياد خداش فانت تكتب عن عرض مسرحي لا نصا ابداعيا ، فارفق بك وبقرائك وبغسان زقطان تحديدا ، الذي تضحك عليه دائما وتقول له : هاك كتابة مقالية عن مسرحية ثم يفاجأ بك تكتب هذيانا
ساكتب الان قراءتي للمسرحية والتي بالضرورة هي ليست قراءة كل مشاهد ، فانا لست الاخرين ، انا انا ،
ذلك الذي يحب مناطحة اخطائه وعناق عوجه واشهار مراياه كسيوف خلاص وبراءة في وجه الحقيقة المنتظرة ، ذلك الذي يحب المسرح اكثر من امه وكتبه ، وقصصه ،
اكثر من حيفا احيانا ،
ملخص الحكاية ان البيك او سيد البيت كان رجلا منحلا ، اعتدى على احدى خادماته فاثمر الاعتداء كائنا بديعا هو جينا التي تعمل خادمة في بيت البيك ، يموت البيك ويعود ابنه من البلاد البعيدة ، ليحب جينا ويرغب في الزواج منها ، فيجن جنون الام سيدة البيت التي تعرف بالحقيقة ، وتكشف لجينا وابنها جميل حقيقة اخوتهما فينهار جميل وينتحر استجابة لروح الخطيئة التي تتلبسه نتيجة خطايا ابيه المنحل ،
زوجة البيك التي ادت دورها المبدعة سلوى نقارة كانت امنا جميعا نحن الذين خاننا زمننا ووطنا و قادتنا ، خانونا بالمعنى الوجودي لا السياسي او الاجتماعي ، لقد اتوا بنا الى هذا العالم ثم قادونا الى فضيحتنا ورعبنا وتركونا نتخبط في اخطائهم و اخطائنا ،، جميل الساخر المتهتك الغبي الذي ادى دوره الفنان جميل خوري كان نتاج لحظتنا التاريخية وحضاراتنا القشرية الفارغة ، فنحن فارغون ومحبطون ومليئون باشباح خطايا ابائنا ، اننا محكومون بمسارهم و بافعالهم ، لم لا يكونوا هم الحياة نفسها بقيودها و ومصائرها المحددة واقتراحاتها الجبانة؟؟ ، جينا التي ادت دورها الفنانة حنان حلو كانت عارنا المستمر، رقتنا المجروحة ، سلامنا الضائع ، جنوننا ، وظبيتنا الحلوة التي ضيعناها في وديان اخطائنا القاتلة ، القس الذي ادى دوره الفنان محمود عوض كان عدالتنا المزيفة ، كان بشريتنا حين تحاول ان تضفي على روحها الوهة ما ووقارا ما او رضى عن النفس مكشوف وبليد ، انه طريق الرب المسدود ولعبة المطلق المضحكة
يعقوب الذي ادى دوره الفنان مكرم خوري كان الكذب حين يستمتع بذاته ويفخر ويواصل منطقه المنتصر في زمن وغد ، يعقوب كان خطؤنا القدري ، خطأ الحياة العادل ، خطأ الاشياء التي لا نفهمها واختلالها الدائم لصالح الصدأ والطحلب والعتمة ، خطأ الوجود ،
كامل الباشا كان هو الرائع الذي لملم شظايا الخطايا المتناثرة هنا وهناك ، دوخنا بصوت ريم المذهل وهي تصيح او تغني او تصلي او تحلم ، الاصوات كانت قصيرة و خاطفة تشبه نداء هرب او نداء حب او نداء موت ، او كل ذلك جميعا ،
الباشا النحيل والهاديء ، المختفي بذكاء ورشاقة خلف كل حركة وكل صوت وكل قطعة ديكور ، وكل قطعة نور ، هو صانع هذه القصيدة النثرية الطويلة ، هو مبدع هذا الجمال في نشوات التوتر والخوف وسعادة القلق ،
لم تكن ثمة رسالة في المسرحية ، فنحن لم نحس اننا امام درس اخلاقي او وعظ ، كان هناك شريط حياة ، قطع من مشاعر ومواقف ، كان هناك حيوات ثرية وشخوص مليئة بالندوب والهواجس والغضب والندم والعنف والحب ، انها طريقة الفن في اضاءة اراضينا وتلالنا وصحارينا المضببة والبعيدة ، وفي نقلنا الى حقيقة الاشياء وطزاجتها سواء اكانت كابوسا ام عرسا ،
اللغة المترنحة ذلك الترنج الجميل والمتوازن بين الفصحى والعامية ، جاءت مناسبة تماما ، لتمتين احساسنا بمحلية هذه الاحداث ، ورغم بعض الاخطاء النحوية في نطق الجمل احيانا ، الا ان اللغة اسمهمت بقوة ووفاء في بناء التوتر الدرامي وتصاعده في العمل ،
اداء الممثلين كان اكثر من رائع خاصة تلك السيدة الاربعينية التي هيجت احساسنا الجاهز بجمال المراة الحزين وهي تحاول اغواء قس هارب من جنان حواسه الى صحراء ربه ، سلوى نقارة ، بملامحها الحزينة والمتعبة والنضرة جلبت لنا او لي على الاقل ، يقظات كثيرة لحلم قديم لن اكشف عنه حتى لا اخرج عن الموضوع ،
ان فراشات الانوثة الغاضبة واليائسة حين ترتطم بجدران التعب والانهاك واليأس لا بد فورا ان تغويني ، وتوقعني صريع شعور غريب هو اشبه بالفرح والدهشة حين ارى عشبة خضراء تائهة ووحشية تحاول ان تطل براسها من شقوق ضيقة جدا لحائط قديم واسود وصلب ، او حين ارى طفلا ناجيا من مجزرة ، وهكذا كانت زوجة البيك ،المنهارة الحائرة ، والشبقة والام ، كانت ايضا صغيرة ومبلولة ، وانثى جدا ،
سلوى نقارة : انت فنانة مثيرة للاهتمام الى درجة انك تشبهين المدرسة ، فلديك من التجارب الفنية والثراء في الاحاسيس ، ما يجعلنا نعتقد انك تستحقين ان تعلمينا كيف نلتقط بلور الفن وماساته من الطريق .
مكرم خوري كان حقيقيا جدا ، وفلسطينيا جدا باللباس الشعبي وبالحركات والتلميحات ، انا احب هذا الفنان وافرح حين اراه ، فلديه خامة صوت قريبة وواسعة ودافئة تتيح له ان يقنع المتفرجين بانه لا يمثل، وان يكتسب ثقة من حوله بسرعة ، كل سامع لصوته يشعر انه يعرفه ، وانه سمعه مرارا في الشارع او البيت او المدرسة او الحلم ،، كما انه يشعرني انه يحب المسرح بجنون ، وانه سيموت فورا لو ترك المسرح ، احس انه يكون في بيته تماما حين يقف على خشبة
المسرح ، بيت زوجته واولاده واشيائه الخاصة ، انا ا وافق مكرم على شعوره ، فالمسرح بيت ، بيت حقيقي ، بكل ما تعنيه الكلمة من شراشف بنفسجية واكواب نبيذ
وكسل صباحي شهي وناعم .

zkhadash@yahoo.com